مقاتل من أصحاب الأرض يسحب جندياً من جنود الاحتلال داخل نفق. الجندي في كامل عتاده، حذاء مصنوع خصيصاً وسترة واقية من الرصاص وخوذة لحماية الرأس وسلاح متطور وكمية كافية من الذخيرة. أما المقاتل فلا يملك أي شيء مما يمتلك الجندي، ليس في جعبته سوى حذاء مهترئ وإيمان بقضيته وشوق للحرية.
قد تستدعي الجملة السابقة في ذهنك صورة مقاتلي كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، وهو يجر أحد جنود الاحتلال الإسرائيلي، في 26 مايو الماضي. مما أثار حملة من التعليقات حول الشبشب الذي هزم البيادات/ البساطير العسكرية. ومع صعود الوسوم التي تحدثت عن عملية الأسر الشجاعة، وعن القتال في قطاع غزة، ارتفع وسم آخر ليزاحم تلك الوسوم، هو وسم شبشب نابولي.
ونابولي هي العلامة التجارية التي يتبع لها حذاء مقاتل القسام. وهي علامة فلسطينية نبعت من الخليل. أسسها الفلسطيني سليمان النتشة. واستطاع هذا الشبشب أن يجد له مكاناً في الدول العربية المجاورة لفلسطين كالأردن، ثم العراق والسعودية.
وبعد انتشار مقطع القسام هرع المؤثرون للإعلان عن اقتنائهم له. وتحول هذا الحذاء البسيط إلى علامة ذات دلالة على قلة الإمكانات التي تمتلكها المقاومة الفلسطينية، لكنها مع ذلك تسطر أعظم الإنجازات. وتواترت عديد من الجمل على مواقع التواصل الاجتماعي بخصوص هذا الحذاء ومنها أن شبشب نابولي قد تحول لعلامة مسجلة لدعس الأعداء.
لكن قبل أن توجد صورة القسام كانت تلك الصورة مرتبطة بقتال آخر. معركة الولايات المتحدة الأمريكية مع الفيتناميين. ويمكن القول إن تلك الرمزية هي التي أسهمت في تحميل عديد من الدلالات على فيديو القسام. فقد كان صندل هو تشي منه موجوداً في المعارك من قبل، وكان يشبه في هيئته شبشب نابولي الخليلي. حتى صار شائعاً أن صندل هو تشي منه هو الرفيق الأوفى لتأسيس دولة فيتنام، وحصولها على استقلالها.
بدأ الفيتناميون تصنيع تلك الصنادل المطاطية للمرة الأولى في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي، عام 1947 تقريباً. في تلك الفترة كان الفيتناميون يخوضون حربهم ضد الفرنسيين. واستخدموا إطارات السيارات العسكرية الفرنسية التي كانوا يوقعونها في المكامن لصنع ذلك النوع من الصنادل. تلك الصنادل المطاطية هي التي مكنتهم من السير في التضاريس الصعبة لبلادهم، في مختلف الظروف المناخية.
بمرور الوقت تطورت صناعة هذه الصنادل. وأضحى هناك ربط ذهني، وتاريخي نوعاً ما، بين التطور في صناعتها وتطور قوات المقاومة الفيتنامية، الفيت كونج، وأصبح بإمكان معظم المقاتلين صناعة صنادلهم الخاصة من أي إطار لمركبة عسكرية يجدونه. ومع الأخذ في الاعتبار أن تلك القوات كانت تنفذ عملها حافية الأقدام سابقاً، يمكن حينها فهم مدى عظمة تأثير ارتدائهم حذاء بدائياً كصندل هو تشي منه المطاطي.
أما عن تسميته باسم الرئيس هو تشي منه، حتى إنه يعرف في الداخل الفيتنامي باسم صندل العم هو، فذلك يرجع إلى تفضيل الرئيس ذلك النوع من الأحذية، حتى في خارج أوقات الحرب، وبعد أن نالت فيتنام استقلالها. وكان الفرنسيون من أوائل من استخدموا ذلك الوصف رسمياً على الحذاء. وأصبح الأمر مثبتاً تاريخياً حين وضع هذا الصندل في المتحف الذي يضم مقتنيات الرئيس.
حتى إن القوات الأمريكية حين تعرض مقتنيات من حقبة حرب فيتنام، فإنها تحرص على وجود ذلك الصندل، لأنها تراه مساهماً محورياً في نجاح الفيتناميين في صد القوات الأمريكية. مثل متحف نيفي سيل، وهو متحف تابع للقوات الخاصة الأميركية، ومتحف بريتركز العسكري.
بعيداً من الرمزيات، هل يمكن أن يكون لهذه الصنادل والشباشب البسيطة دور فعلي في حماية المقاتلين؟ الإجابة يمكن استنتاجها من معرفة الجانب الآخر للقصة.
إن البيادات/ الأحذية العسكرية، يمكن أن تقتل من يرتديها أحياناً. المثال الأحدث على ذلك هو ما نشرته الصحافة الإسرائيلية في يناير عام 2024، عن عدوى خطرة، على حد وصفهم، تضرب أقدام الجنود الإسرائيليين في غزة. وأفادت صحيفة جيروزاليم بوست عن عديد من أطباء الجلدية أنهم عالجوا في أشهر الحرب الأولى العشرات من الجنود من فطريات الأقدام. وقد اتفق الأطباء، والمحللون العسكريون، أن السبب في تلك الفطريات هو الحذاء العسكري.
الأحذية العسكرية مصممة لتكون محكمة الإغلاق، لتعطي أماناً تاماً لأقدام الجنود، وهي ميزة جيدة في الظروف الميدانية العادية. لكن في حالات حروب المدن، حيث يكون الجنود على أهبة الاستعداد دائماً، فإن تلك الأحذية المحكمة التي لا يخلعها الجنود لفترة طويلة، تمثل بيئة خصبة لتكاثر البكتيريا والفطريات المعدية، خصوصاً مع ظروف الرطوبة والحرارة العالية.
تراوح أعراض تلك الفطريات التي عاناها الجنود من رائحة كريهة قوية للقدم، وصولاً إلى الشعور بالحكة الذي لا يهدأ حتى بعدما تنزف الأقدام من شدة الحكة. وعلى رغم العلاجات المعتادة التي تعطى لهذه الحالات، فإن أفضل علاج لها هو التهوية المستمرة للأقدام خلال العمليات، وهو ما يمكن أن يصبح مستحيلاً واقعياً.
من جانبه، صرح ليران ليفي مدير خدمة زراعة الرئة في مركز شيبا الطبي في تل هشومير لصحيفة يديعوت أحرنوت بأن «عدداً كبيراً من الجنود يعانون جروحاً رهيبة. يبدو أن لديهم فطريات جلدية خطرة للغاية. فهم تحت الطلب طوال الوقت، لا يخلعون أحذيتهم وهناك رطوبة على أقدامهم، ولا يغيرون الجوارب بشكل يومي، وفي بعض الأحيان لا يستحمون لأسابيع، وتعد هذه أرضاً خصبة لفطريات الأظافر والجلد، التي تسبب أحياناً جروحاً شديدة ومؤلمة».
كما أن الأحذية العسكرية تؤدي إلى حدوث حالة من انغراس الأظافر تحت الجلد. وهي حالة معروفة بمقدار الألم المرعب الذي تسببه، مما يمنع الجندي من مواصلة أي نشاط عملياتي، ولا يستطيع التوقف عن الصراخ. عدوى الأقدام بين الأفراد العسكريين موجودة دائماً، لكن بالطبع تم تسليط الضوء عليها أخيراً بسبب العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.
وحينما تناولت الصحف الإسرائيلية أخباراً تحمل عنوان موت أحد الجنود نتيجة إصابته بعدوى فطرية أثناء حرب غزة. انتشر الهلع في صفوف الجنود، وفي صفوف المدنيين كذلك الذين يحتضنون أبناءهم وذويهم بعد العودة من قطاع غزة. وأفاد عدد من الأطباء لصحيفة تايمز أوف إسرائيل، عن وجود حالات من عدوى فطرية قاتلة بين الجنود بسبب ملامستهم لتربة غزة لفترة طويلة. وأن تلك الفطريات التي عاد بها الجنود هي في الغالب مقاومة لجميع أنواع المضادات الحيوية.
مقاومة المضادات الحيوية المعروفة تعني أن مسألة موت الشخص المصاب مسألة وقت لا أكثر. لكن على الجانب الآخر تجدر الإشارة إلى أن تلك الفطريات القاتلة لا تفرق بين الإسرائيلي والفلسطيني، وتشق طريقها أيضاً للنازحين الفلسطينيين المكدسين في مراكز الإيواء أو في الطرقات بعد قصف مراكز الإيواء.
انتشار تلك الفطريات كان معروفاً لدول العالم قبل الحرب الإسرائيلية، فمن بين الدراسات التي تناولتها كانت دراسة عن معدل الإصابة بها بين جنود الجيش الجزائري الذين يراجعون المستشفى العسكري المركزي في العاصمة. ووجد انتشارها بين قرابة 18% من بين الضباط والجنود، على اختلاف الرتب العسكرية.
أما البحرية التايلاندية حين أرادت إجراء استبيان روتيني عن معدل الإصابة بفطريات الأقدام بين الجنود، فاكتشفت أن ما يقارب من 52% ممن شملهم الاستبيان يعانون أعراضاً يحتمل أن تكون إصابة بالفطريات. وبعد الفحص وإجراء الفحوصات المطلوبة تأكد إصابة قرابة 38% ممن شملهم الاستبيان. وقد خرجت تلك الدراسة بنتيجة مفادها أن ارتداء الحذاء العسكري لأكثر من ثماني ساعات متواصلة يومياً، يؤدي إلى الإصابة بتلك الفطريات.
لهذا تكون الصنادل أو الشباشب أو الأحذية المفتوحة عموماً هي الأنسب للقتال في المناطق الرطبة. أو للحياة في الأنفاق بالنسبة لمقاتلي المقاومة الفلسطينية. لأن ذلك يعني تعرض أقدامهم للهواء والشمس بصورة متكررة، مما يحميها من الفطريات والبكتيريا الضارة التي تصيب جنود الاحتلال. وعلى رغم ما في السير حافياً أو بحذاء غير مجهز من أخطار فإنها تصبح أهون مقارنة بالإصابة بفطريات الأقدام، خصوصاً مع صعوبة أو استحالة الوصول إلى الأدوية الخاصة بها في حرب الإبادة التي تعيشها غزة حالياً، وعاشها الفيتناميون سابقاً.
# طوفان الأقصى # حرب غزة # إسرائيل # الولايات المتحدة الأمريكية # فيتنام